لم تكن الثورة الشعبية في تونس ضد الوضع
الاجتماعي العام شيئا استثنائيا، لكنها كانت مفاجأة أن تندلع بتلك الطريقة،
وأن يرفع الشعب التونسي صوته بتلك الطريقة أيضا، بحيث أن النظام في شكل
زين العابدين بن علي بدا حرجا للعظم وهو يلقي بكلمة غير جديدة، هذا لأن
الحجارة التي عكرت صفو النهر لن يتوقف مداها أبدا!
تونس
الصغيرة، كبرت كثيرا في ظرف أيام لأن شعبها أعلن بطريقة مباشرة موقفه من
نظامه ومن سلطته ومن اللصوص والسراق في البلاد (وما أكثرهم)، ولأن دوام
الحال من الحال، فقد كشفت صحيفة لوسوار البلجيكية أن مجموعة من الاتحاد
الأوروبي زارت تونس في اليوم الثالث من انتفاضة سيدي بوزيد حاملة رسالة إلى
بن علي، مما أخرج الرئيس عن صمته وألقى خطابه "الخائب" على شعبه الذي لم
يعد يصدق الوعود المجانية التي طالما سمعها منها في الحقبتين الماضيتين من
الزمن. فمن يعد بتحسين أوضاع الشعب وهو جالس في مكتبه المحاط بالحراسة
الشديدة لن يتورع عن فعل أي شيء لمزيد من تكريس هذه الأوضاع، لأن الانفتاح
الحقيقي على السلطة، وعلى القانون، وعلى الشعب تعني ببساطة ترك الكرسي
لخليفة جديد قد يحمل الخير للبلاد وللعباد، وهذا ما لم ولن يقبل به زين
العابدين بن علي وحرمه، فقد جاء إلى السلطة قبل 28 سنة ليبقى، بل وليموت
على الكرسي!
بيد أن المدهش أنه في الجهة الثانية، بعد
أيام من انتفاضة تونس، انفجرت أوضاع مشابهة في أهم المدن الجزائرية، بعد ان
وجد المواطن الجزائري البسيط نفسه محاصرا بين سنديان النظام الجامد
والمفلس، والخطاب الجامد والخائب، ومطرقة الأسعار المشتعلة والمشاكل
اليومية التي سايرت الجزائريين في الحقيقة منذ الاستقلال، وظلوا يجترونها
يوما بعد يوم، وجيلا بعد جيل.
ثورة الخبز في تونس،
تقابلها ثورة الكرامة في الجزائر، في هذا التوقيت الذي كان يراهن النظام
الجزائري على شعبيته، وعلى نجاح مشروعه السياسي الذي زاد في أرصدة الأغنياء
على حساب الفقراء في دولة النفط والغاز والثروات الطبيعية، أكبر دولة في
أفريقيا بعد تقسيم السودان!
الجزائر الألفية الجديدة!
من عايش التغيرات الكثيرة التي مرت عليها الجزائر منذ الثمانينات من
القرن الماضي، لا بد أنه يتوقف أمام وقائع كثيرة، إن لم أقل تواريخ صارت
مرتبطة آليا بمخيلة الجزائريين، وبانتماءاتهم أيضا؛ فقد انفجر الشعب
الجزائري في منتصف الثمانينات انفجارا مدويا، عُــرف بين الجزائريين بعبارة
"معركة الجزائر الثانية" (بعد المعركة التحريرية العظيمة)، حيث خرج الشعب
في أكتوبر1988 للصراخ ضد التمييز العنصري بين الجزائريين، وضد الجهوية، وضد
المحسوبية، ضد اللصوصية والنهب والفساد الإداري، وضد والتهميش والإهمال
وضد الثروات التي تذهب إلى جيوب الغيلان من الحرس القديم والحرس الجديد،
أمام أعين البؤساء من الشعب، وإن استطاعت أجهزة الأمن وقتها أن تجبر
الجزائريين على الصمت، إلا أن تلك المرحلة المهمة من تاريخ البلاد، هي التي
فتحت الباب على التعددية السياسية، وهي التي أفرزت تيارات كثيرة، لعل
أبرزها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، التي على عكس العديد من الأحزاب الأخرى،
خرجت من صلب الشعب، ومن البسطاء والمهمشين، ومن الفقراء والمحرومين.
ما حققته الجبهة الإسلامية في ظرف وجيز من شعبية منقطعة النظير، لم تحققه
أحزاب موجودة في الساحة (سريا وعلانية) منذ الاستقلال، لهذا كان بديهيا أن
التغيير الذي يريده الشعب ليس فقط تغييرا سياسيا، بل تغييرا اجتماعيا
وفكريا وثقافيا، وتغييرا في الفكر الديني من العلماني الفاسد والمطلق، إلى
الديني المتسامح والبناء.
صحيح أن الجبهة الإسلامية
للإنقاذ التي راهنت على الشعب أكثر مما راهنت على التجربة وعلى ضرورة العمل
والبقاء، أخطأت في تصوراتها بسبب غياب التجربة في دولة شمولية مثل
الجزائر، إلا أن ما وقع من بعد ذلك عكس للجميع، بمن في ذلك لدول حوض
المتوسط الأوروبية القريبة جغرافيا من الجزائر (فرنسا/اسبانيا/ايطاليا)
الصورة التي ظلت غائبة عنهم بأن الجزائريين لا يثورون فقط ضد السلطة كسلطة،
بل يثورون ضد ما تمثله السلطة من ظلم، ومن جور، ومن تمييز، ومن إرهاب
سياسي شبه مطلق، وبالتالي فإن مطالبهم ليست فقط الخبز، بل الكرامة،
والحرية، والشعور الكامل بالمُــواطنة التي تعني المساواة أمام القانون
وأمام الإدارة وأمام المسؤول مهما كان منصبه، فلا فرق بين أمير وفقير أمام
الموت في النهاية!
فوهة الانفجار المغاربية:
من يقول أن الانتفاضة التي تنفجر هنا وهناك ليست أكثر من سحابة صيف مخطئ،
مايو2010 انفجرت في بعض المدن الليبية (رغم الحظر الشديد على التجمعات غير
المصرح بها) لم تكن مجرد انتفاضة شخص أو شخصين، بل شارك فيها مئات الأشخاص
(أغلبهم شباب) ضد الظلم والديكتاتورية العسكرية التي مارسها ويمارسها
العقيد القذافي تحت شعار" كتابه الأخضر" الذي صار باهتا من شدة تناقضات
عملية ما فتئ يمارسها على مدى سنوات من الحكم العسكري بالقوة.
من يقدر
على قول كلمة "لا" للقذافي الذي يخطب لشعبه أن الجماهيرية هي ملك الشعب؟
هل يقدر الشعب على قول رأيه في سنوات التعميم الرهيبة، والتغييب
والاغتيالات السياسية العلنية والسرية والمساومات حتى مع الغرب على حساب
كرامة وحياة الشعب الليبي؟
والحال أن انتفاضة مايو كانت
ردة فعل رغم التضييق الإعلامي الرهيب، ولم تكن الوحيدة، ولا الأخيرة، وإن
جاءت انتفاضة سيدي بوزيد التونسية لتكمل المشهد في دولة مثل تونس حوّلها
النظام إلى ملكية خاصية كتب عليها" ملكية زين العابدين وحرمه"، لتنتقل في
ظرف أيام إلى الجزائر، حيث إن الانفجارات الشعبية الكثيرة في العامين
الماضيين كانت تحمل طابع الغضب الشديد من أوضاع مزرية، فمن غير المقبول أن
تكون دولة النفط والغاز الطبيعي والخيرات كالجزائر دولة يعيش فيها نسبة
كبيرة من الفقراء، ومن غير المعقول أن تجلب المؤسسات الجزائرية اليد
العاملة من الصين ومن تايوان ومن دول أخرى على حساب اليد العاملة الجزائرية
التي تعيش عاطلة عن العمل، ومن غير المعقول أن يرتفع النفط ليصل عام 2008
إلى 170 دولار، وتدخل مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة ليجد الشعب نفسه
مطالبا بدفع الضرائب في أكله وشربه وراحته، بانتظار المغرب الذي يعيش وضعا
كارثيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى!
لقد تحول الغضب
الشعبي إلى الطريقة الوحيدة في لفت نظر النظم الفاسدة إلى الأوضاع الخطيرة
في البلاد، الرشوة واللصوصية الرسمية، والتهميش والظلم، والذي أضيف إليه في
الأعوام الماضية الزيادة الرهيبة في أسعار المواد الغذائية في ظل دخل شبه
معدوم، حتى صار المواطن يرمي بنفسه في البحر نحو دول يعتقد أنها سوف تحترم
ما تبقى من كرامته ومن كيانه، فقد كشفت التقارير الرسمية الصادرة في
إسبانيا وإيطاليا (يوليو 2010) أن المواطن المغاربي يحتل الرقم واحد في
نسبة المهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا الجنوبية، ليأتي بعده مواطنو
أفريقيا السوداء، حيث شكل المغاربة النسبة الأكبر في الهجرة غير الشرعية
نحو اسبانيا، كما شكل الجزائريون والتونسيون نسبة كبيرة في الهجرة غير
الشرعية نحو ايطاليا وفرنسا، بينما الأفارقة يأتون في الدرجة الثانية أو
الثالثة، وتساءلت الهيئة الاسبانية لشؤون المهاجرين عن السبب الذي يدفع
شباب في العشرين من عمرهم إلى الهرب على متن قوارب الموت إلى الخارج، في
الوقت التي تحظ بلدانهم بكل الخيرات، سواء النفط (الجزائر) أو الحديد
والصلب (تونس) أو (الفوسفات) المغرب، بل ثمة كلام عن وجود اليورانيوم في
صحراء الساحل وهو السبب الذي يجعل الغرب يرسل جنوده تحت صبغة ملاحقة
الإرهابيين، وبالتالي وضع اليد على مساحات كبيرة من صحراء الساحل المليئة
باليورانيوم، خصوصا صحراء النيجر، ومالي وهو ما يعكس إصرار الغرب على أن
تنظيم القاعدة يتواجد تحديدا هناك دون غيرها من المناطق الإفريقية على
الرغم من وضعها البائس الذي يحتاج إلى عملية انقاذ دولية!
ما يجعل المواطن يغضب ويشعل النار في الشوارع والطرقات هو إحساسه بالعجز
أمام أنظمة لم ولن تفكر في شيء غير نفسها وأبنائها وأحفادها المقربين، بحيث
في الحرب يهربون إلى الخارج مع أبنائهم، وفي السلم يعودون إلى الداخل
بخطاب سياسي مغمس في الكذب والتدليس، كما حدث مع أولئك الذين عاشوا إبان
الثورة في الخارج ودخلوا بعد الاستقلال فاتحين على حساب مجاهدين حقيقيين
أغلبهم وجد نفسه دون حتى بيت يأويه، لأن البيوت الكبيرة احتلها "الفاتحون"
ولأن الخيم والبيوت القزديرية تحولت إلى ملاذ الشعب، بالإضافة إلى حوافز
تكريمية لمجاهدين اتضح سنوات كثيرة من بعد أن أغلبهم غير حقيقيين، بل وكشفت
وزارة المجاهدين أن بعضهم زوروا وثائق للحصول على تلك الحوافز التكويمية!
لم يطلب الشعب في ليبيا وتونس والجزائر وحتى المغرب وموريتانيا سوى مساحة
للعيش الكريم، سوى مساواة في العطاءات، وكرامة تجعله يعيش مرفوع الرأس،
وقيم أخلاقية ودينية وثقافية وفكرية واجتماعية تؤسس لمجتمع مسلم مبني على
الحقوق والواجبات وعلى طاعة الله وحده لا شريك له في الملك، ومعصية الفرد
إن كان ظالما، حتى لو كان ذلك الفرد رئيسا أو ملكا أو إمبراطورا، والحال أن
المعصية ليست تخريبا، بل صرخة لأجل التحرر من كل هذه المظالم الرهيبة التي
حولت المجتمعات إلى مستوطنات استعمارية كثيرة، وإلى كولونياليات كبيرة،
وإلى مزارع خاصة يمتلكها هذا وذاك، وقد بدأ العصيان فعلا، ليس لأن أسعار
المواد الغذائية في الجزائر ارتفعت في الأسابيع الماضية إلى أعلى معدلاتها
أمام مرأى الدولة (التي رفعت شعار ارفع رأسك)! بل لأن الدولة نفسها بدت
عاجزة عن الوفاء بوعودها الأبسط، لأن الجزائر التي تصورها الهيئات الدولية
بأنها دولة ينخرها الفساد لا يمكن أن يقبل شعبها بهذا الوصف، ولا بهذا
الأداء في العمل السياسي الذي همش المواطنين، وصنع منهم جيتوهات على شاكلة
جهوية بائسة فتحت الباب كاملا لعمليات التغريب والتنصير الرهيبة ضد
الجزائريين.
من يصدق أن بلد المليون ونصف المليون شهيد
يرتد فيها جزائريون من الإسلام إلى المسيحية في مناطق كثيرة تحت أنظار
الجميع، فالمنصرون الذين نشطوا في السابق بنظام الأورو ينشطون اليوم بنظام
"فيزا" إلى أوروبا لكل جزائري يترك دينه، دون أن تتدخل الدولة بشكل حاسم ضد
المبشرين الذين ينشطون في المراكز الثقافية الأجنبية، ويمارسون دورهم
التنصيري في مؤسسات كثيرة، بمن فيها السفارات والقنصليات الغربية في البلد.
من يصدق أن يتواجد في الجزائر أكثر من مئة ألف نصراني، في الوقت الذي لم
يكن فيه نصرانيا واحدا في السبعينات أو الثمانينات يمكن القول أنه نصراني
جزائري كما يفعل اليوم.
من يصدق أن تتحول البيوت في بعض
المناطق إلى كنائس لاستقطاب المتنصرين الجدد، ولحث المسلمين على ترك "دين
الإرهابيين" كما وصفه أحد الأوغاد الجبناء..
هذا يحدث بكل أسف في
الجزائر، ويحدث في المغرب وتونس، وموريتانيا، دون أن يحرك النظام ساكنا،
حتى صار الفاتيكان يتكلم اليوم عن الأقليات المسيحية في دول المغرب
العربي!! مع أنهم لا يتجاوزون المائة ألف ضمن 35 مليون جزائري مسلم على
سبيل المثال لا الحصر.
لقد حان الوقت ليصرخ الشعب ضد هذه
النظم الفاسدة والمفسدة الجائرة التي تدفع للاعب كرة القدم ملايين
الدينارات وتحرم مهندس أو مخترع شاب من حقه في العمل وفي دعم الدولة له، في
الوقت الذي تصرف ملايير الدينارات على رأس السنة الميلادية، تحت أقدام
الراقصات الماجنات، أمام أعين شعب يكاد يتسول لقمة يومه بعد أن ضاقت به
السبل في دول مغاربية تعيش مع بداية العام أسوأ مراحلها، لأنها جاءت نكاية
في الشعب، وسوف تسقط بإرادة الشعب إن شاء الله.